Home > Culture > شارع الرشيد.. ذاكرة يسطو عليها الإهمال

10/8/2016 12:00 صباحا

بغداد – هدى العزاوي
بين ساحة الميدان وبداية جسر الجمهورية، تبرز علامة بغداد الفارقة والمميزة مثل وشم على جسد عروس جميلة، فمن لم يزر شارع الرشيد فإنه لم يشهد رئة بغداد التي تتنفس منها مدينة السلام، شارع الذكريات والحنين الذي تهيج به موجات دجلة وموسيقى سوق الصفافير وجمال شارع النهر ونظرات حافظ القاضي وصوت المتنبي من بعيد، وحركة العلماء في المدرسة المستنصرية، شارع كل ركن فيه يقول لزواره ها أنا ذا سيد الشوارع العراقية ووجه من وجوه بغداد البارزة، فالتاريخ والجغرافية انصهرتا فيه حتى بات عنوانا للأصالة والتراث، يضم بين أعمدته الجرداء وصفحات تاريخه العميق نماذج بشرية مختلفة الأعراق متنوعة المشارب والخلفيات طبعت عليه بصماتها بقوة وادخرت ما شاءت من ذكريات الصبا والشباب والكهولة، ولكن مع مرور الوقت بدأ الإهمال يتسلل إليه، فتراكمت السموم بين حواشيه وامتلأت أزقته بالظلام، بعد أن كان مصدر نور يضيء كل شيء من حوله، فخفت وهجه وانتشرت الفوضى وتكدست تلال النفايات عند مفترق طرقاته، وتحول هدوؤه الروحاني الى صخب يصم الآذان بعد أن وطأت صدره عجلات المركبات وهي تكتم أنفاسه، فلم يعد شيء يدعو للتقدم في حياة هذا الشارع، بل أصبح الشارع مجرد ذكرى تكرار دائم للإهمال وعدم الاكتراث، فأخذ يتآكل من الداخل وهو ينذر بسقوطه من بطن التاريخ، خيارات ترميمه لم يهمل شأنها من قبل أمانة بغداد، فقد كان يوم 23-7-2016 الذكرى المئوية لشارع الرشيد بداية انطلاقة أعمال الإدامة والصيانة ضمن الإمكانيات الذاتية للأمانة، وهذا ما أكده مدير عام دائرة بلدية بغداد الرصافة المهندس أحمد خوام
خيون.
مشيرا الى أن «بلدية الرصافة أخذت على عاتقها أعمال تهيئة وصيانة وتأهيل الجزء الجانبي من ساحة الميدان الى الباب الشرقي وإزالة التجاوزات والملصقات الموجودة على مدار شارع الرشيد بإشراف من قبل أمينة بغداد الدكتورة ذكرى علوش، إذ أوعزت الى مشاريع الدائرة التخصصية بإعادة إعمار شارع الرشيد وصبغ الأرصفة والأعمدة الكونكريتية وترقيع المطبات المرورية الموجودة في الشارع».

منعطف الرشيد

ويقول الدكتور عبد الأمير الحمداني – المختص بالآثار -: «يعد شارع الرشيد شريان مدينة بغداد الثقافي لذلك يفترض الحفاظ عليه لما يحتويه من تراث معماري يوثق لفترة حضارية من تاريخ بغداد والعراق، ففي بداية الشارع من جهة باب المعظم توجد أبنية من العصر العباسي، منها القصر العباسي ومراقد مهمة ثم المدرسة المستنصرية، فضلا عن العديد من المباني التراثية سواء بيوت السكن أو المقاهي والخانات والربط والمدارس والمساجد والتكيات والمراكز الثقافية، حيث تحوي المباني في شارع الرشيد على عناصر معمارية وزخرفية فريدة، وبنيت المباني وفق طراز معماري يمثل وجه بغداد المشرق، لذلك يجب الحفاظ على شارع الرشيد وتطويره بما يحافظ على قيمته التاريخية والتراثية والمعمارية والحفاظ على تراثه الثقافي ليبقى ذاكرة حية وشاهدا على عظمة بغداد المدينة الحاضرة في أعماق الذاكرة
ولكن!».
ومع مرور الوقت فقدت الجهات المعنية سيطرتها على المنظر الحضاري لشارع الرشيد وتناثرت بلا انتظام وكأنها ذخيرة ثمينة في صمت المتحف، فقد أثارت جدرانه المتآكلة وأعمدته المتصدعة وشناشيله اليابسة حزن كاتب رواية (منعطف الرشيد) رياض المولى وهو يتعمق بفحوى روايته قائلا: «شارع الرشيد اسم له رنة خاصة ومؤثرة في عمق التراث والتاريخ، فقد نهض على أكتاف الزمن وهو يحاكي مجد الماضين وسط تراكم الذكريات وإرهاص الواقع مرتقيا سدة الشهرة وهو يتعكز على أهميته القصوى وإيمانا مني بأهميته، آثرت أن أكتب عنه رواية تدور في فلك شارع الرشيد، مجتزئا شريحة مصغرة من واقع مؤلم وحياة صاخبة موجعة تموج بها روحه وهو يقدم لنا نماذج بشرية لا تعد ولا تحصى تحمل هموما ومآسي كبيرة وظلما عظيما، كانت وما زالت جزءا منه وقد طالها الخراب مثلما طاله، فضلا عن القسوة والإهمال بسبب تأثير الحكومات المتعاقبة على مر
التاريخ».

ذاكرة بغداد

وما زالت الجهات المعنية تتنفس الصعداء لإعادة تأهيل شارع الرشيد، إذ تم التعاون والتنسيق مع دائرة كهرباء الرصافة الشمالية لوضع إنارة حديثة على مدار الشارع تضفي لمسة وتوقد شموع الأمل في إعادته الى سابق عهده وهذا ما أكده خيون.
مضيفا «كان هناك تعاون مشترك بين بلدية الرصافة ودائرة كهرباء الرصافة الشمالية على إجبار أصحاب المولدات على رفع الأسلاك المتدلية ووضع تنظيم موحد يقلل من التشوهات التي تحدثها تلك الأسلاك، فضلا عن الدور الفعال الذي حققته مؤسسة لوكال الاقتصادية (منظمة مئوية شارع الرشيد) التي قامت بتأهيل أربعة عقارات في شارع الرشيد لتطويرها».
تسلمت دفة الحديث مديرة مؤسسة لوكال الاقتصادية المهندسة زينب مصطفى قائلة: «قمنا بتقديم تخطيط كامل لمشروع إعادة ترميم معظم واجهات المباني في شارع الرشيد الى الجهات المعنية بطريقة علمية واضحة وتخطيط دقيق والتنفيذ باحترافية عالية، وهذا ما سهل لنا الطريق للحصول على موافقات العمل بالإشراف الميداني مع الجانب الحكومي وأصحاب المباني، فقد كان هناك تعاون كبير من مكتب امين بغداد الدكتورة ذكرى علوش ودائرة التصاميم في أمانة بغداد، ودعم معنوي من الأمانة العامة لرئاسة
الوزراء».
وتضيف مصطفى «قامت المؤسسة ايضا بتقسيم شارع الرشيد الى سبعة قواطع وكانت هذه المباني الأربعة التي تم تأهيلها تقع في القاطع الأول من جانب جسر الأحرار، لذلك بدأ العمل من هناك وقريبا جدا ستنطلق كوادرنا لإتمام العمل في باقي
القواطع».
ويضيف خيون أن «أمينة بغداد أوكلت لدائرة بلدية الرصافة عمل نموذج موحد لشارع المتنبي وعمل قوس نظامي فيه أسماء المكتبات والإيعاز لجميع أصحاب المحال الموجودة في شارع المتنبي الاقتداء بهذا النموذج، كما تم إضفاء أفكار جديدة من قبل الهيئة العليا للتصميم الأساس لأمانة بغداد يمكن تطبيقها بالشكل العاجل والسريع على الأرض للحفاظ على الشارع بشكله
الحضاري».
وأكدت علوش استمرار الجهود وذلك من خلال جولة مسائية متأخرة راجلين على الأرض لغرض مشاهدة ومعاينة الشارع وإعطاء انطباع دقيق في كيفية تحديثه بأطر جديدة، وبسبب الزحامات التي يشهدها الشارع صباحا كانت الوجبة المسائية هي الوجبة الرئيسة في إقامة الأعمال ومنع المخلفات والنفايات المتطايرة».

الجهات المعنية

وتؤكد مصطفى أن «أساس عمل المؤسسة هو المحافظة على الشكل الأصلي للمباني وتقدير حجم الأضرار في الواجهة وفحص المواد التي استخدمت في بنائها سابقا لتوفير مثيل لها عند وقت الترميم، كذلك إصلاح النقوش وترميم الأخشاب ووضع قوالب جديدة محل المفقودة لإعادتها لشكلها الأصلي وإصلاح مسالك الأمطار وإبعادها عن الواجهات وطلاء المباني بالمواد العازلة وباللون الذي يناسب تصميمها وباختيار ومتابعة من قبل الكادر الهندسي المختص في العمارة التراثية، لتعود الحياة الأثرية لهذا الشارع عبر مبادرة عراقية إنسانية، إيمانا منا بأهمية شارع الرشيد التاريخية للعراق».
ويختتم خيون حديثه برنة يشوبها الأسف «شارع الرشيد لم يشهد تفاعلا من أية جهة حكومية أو غير حكومية، ما عدا الجهات المذكورة سابقا، وكأن موضوع تطوير شارع الرشيد محصور بأمانة بغداد، الذي من المفترض أن يأخذ مستوى عاليا من الاهتمام من قبل الأمانة العامة لمجلس الوزراء والأهم من ذلك دور وزارة الثقافة وهيئة الآثار والتراث وإعطاء التسهيلات لكل أصحاب العقارات وإجبارهم على موضوع إضفاء لمسة تراثية وتحديث عقاراتهم وإظهارها بطراز معماري وتراثي كان رائجا في ذلك
الوقت».
وفي ما يخص دور وزارة الثقافة والسياحة والآثار في إعادة ترميم شارع الرشيد، يقول المتحدث الرسمي لوزارة الثقافة عمران العبيدي: «يقتصر عملنا على تقديم المشورة لأمانة بغداد والإشراف على عمليات الترميم والإعمار لكل ما هو تراثي في الشارع، فالوزارة لن تبخل في تقديم المشورة والإسناد لأمانة بغداد في هذا العمل، إذا ما باشرت بعملية الإعمار كون ترميم العديد من الأمكنة بحاجة الى عمل خاص يحافظ من خلاله على تراثية هذه المواقع وهذا يتم بإشراف وزارة الثقافة والسياحة والآثار ابتداء من الدعامات الكونكريتية التي تمتد على طول الشارع والشناشيل وغيرها من المظاهر التراثية لتقديم الخبرات في هذا المجال، ولا بد من الأخذ بنظر الاعتبار ان الكثير من ملكيات الشارع هي خاصة يتم التعامل معها بإشراف وزارتنا، وإن رغب أصحابها بالترميم لا يجوز القيام بأي ترميم إلا بموافقة اللجنة المشتركة المشكلة من أمانة بغداد ودائرة التراث في
وزارتنا».

دعوات صادقة

ويضيف العبيدي «ما تملكه وزارتنا في شارع الرشيد هما بيتان تراثيان فقط، وهي تتعامل معهما بالشكل الصحيح، وإن إعادة تأهيل شارع الرشيد يحتاج الى جهود الدوائر المعنية بوضع الخطط والتعاون مع جميع المؤسسات الحكومية وغير الحكومية لمثل هذا العمل الكبير، ولهذا نقول للمعنيين، لتكن هذه دعوة جديدة من أجل الشروع بعمل جدي لإعادة الحياة الى هذا الشارع بما يليق بمكانته في الذاكرة العراقية والبغدادية، فبغداد تستحق وشارع الرشيد الذي يمثل جزءا من تاريخ العراق وذاكرة مواطنيه تستحق الاهتمام، والحفاظ عليه مسؤولية يجب أن يقوم بها المعنيون بالأمر».
وبدعوات صادقة مشفوعة برجاء شديد يختتم المولى حديثه «الى من يهمهم الأمر أن يلتفتوا الى معاناة شارع الرشيد الجريح بسبب قسوة التهميش والإقصاء، الشارع يحتاج الى وقفة من أبنائه المحبين له ولتراث بلدهم وتاريخهم مؤمنين بحضارة امتدت عبر آلاف السنين من أجل النهوض والارتقاء وتطوير ذلك الشارع، فعلى المختصين في مجال العمارة والتراث أن يتعاضدوا من أجل أن يصنعوا له حلة جميلة وموشحة بتراث بغداد تلافيا لطمس هويته الأصيلة وأن يرجعوا جزءا من حقه
المفقود».