فاتن حسين ناجي
يمتلك الكاتب المسرحي يوسف العاني قدرة على تصوير الموقف الساخر والناقد منذ بداياته الأولى مع المسرح . ويرجع ذلك إلى أن العاني كان مهموماً بوجع الإنسان العراقي الذي يئن تحت أوصال من العذابات اليومية مثل الجوع والأمية والفقر والحرمان والاستغلال والاغتراب ، الأمر الذي يوجزه العاني في كلمات “من أجل مسرحي الكبير الذي احتضنت أرضه وسماءه وماءه وناسه وكل نسمة هواء فيه ، احتضنته إيماناً مقدساً لا أكفر به حتى لو سال دمي على ثراه قرباناً وشهادة إخلاص ووفاء.
عشت مع شعبي أحمل المسؤولية الشريفة والعزيزة ، أعطي من قدراتي ما استطيع أن أعطي دفاعا وحفاظا على كل شبر من أرضه كي لا تدنس وكي لا توسخ وكي لا تداس كرامات إنساننا العراقي العربي ” . وهذا ما أكده أيضاً علي الراعي في قوله انه هدف يرمي إليه العاني دائما في مسرحياته وهو : نصرة المظلوم الشعبي على خصومه من أعداء الشعب ومستغليه.
وتعد مسرحيتا العاني ( ست دراهم 1954 ) و ( آنا امك يشاكر 1957 ) من بين أكثر مسرحياته سخريةً والتي بلغ فيهما العاني مرحلة مهمة من مراحل تطوره المسرحي ، ودخل بفنه بقوة وجسارة من دون مواربة في المعركة الوطنية التي كانت تدور في العراق .
تحمل هاتان المسرحيتان سخرية مباشرة من خلال الأسلوب الناقد الذي ضمنه العاني في جميع المواقف والشخصيات . فالأوضاع في ذلك الوقت وما رافقها من تناقضات شتى على الصعيدين السياسي والاجتماعي كانت من الأسباب التي جعلت العائلة العراقية آنذاك ترفض كل ما يدور حولها من ظلم واستبداد وهذا ما صوره العاني في هاتين المسرحيتين .
وإن المتابع لسخرية العاني في مسرحياته سيجدها سخرية أليمة ومرَّة أكثر منها سخرية عابثة تثير الضحك فقط ، فهي متولدة من هموم الناس وآلامهم . والعاني كان يعمد إلى الكشف عن الأوضاع الأليمة من خلال تأثيرها على العائلة العراقية سواء أكان ذلك الكشف بصورة مباشرة في بعض مسرحياته أو غير مباشرة في مسرحيات أخرى . وسواء أكانت سخريته مباشرة أو مضمرة فهي حاملة لهدف واحد وهو التطهير الأخلاقي وهذا ما يراه جميل نصيف التكريتي من خلال وصفه للخلق الفني لمسرح العاني حيث وجد أن سخريته نابعة من موقفه إزاء الحياة ومن هدفه الأساس في التطهير الأخلاقي وفي ذلك يقول :” يتميز بتناوله لمفارقات الحياة الاجتماعية والفكرية من زاوية ساخرة وفكهة ، ولسخرية يوسف وفكاهته دور المطهر الأخلاقي وهو سلاح من أمضى أسلحته التي يستعين بها على كسب الجمهور.
لقد عبر العاني أفضل تعبير عن هوية مسرحه وعن طريقته في الكتابة ، فهو ” لا يريد نقل تلك الحالات الوسطية التي يضيع فيها التناقض ، بل ينقل إلينا الحالات وهي في اشد مواقفها المتناقضة ، ليظهرها لنا بأسلوب ساخر انتقادي. فالعاني تطرق إلى أشياء مغايرة للمألوف ومتناقضة في الوقت نفسه ، والتناقض هنا يحمل هدفا أساسيا هو إثارة السخرية من أجل نقد موقف اجتماعي أو سياسي أراد من ورائه تسليط الضوء على مواقف حتى وإن كانت تلك المواقف في أحيان كثيرة كوميدية . إلا إن تلك الكوميديا لم تكن تخلو من الجانب اللاذع الحاد والموجه إلى هدف معين وضع له العاني إطاراً يجمع بين السخرية اللاذعة والحس الدرامي العميق ، وهو إطار طالما وجد إقبالا من الجمهور ، وطالما وجد العاني نفسه أهلاً له .
في مسرحية ( ست دراهم ) ، سخر العاني من شخصية الطبيب السلبي التي طالما كانت مدار سخرية ونقد في المسرح من قَبلِ أن يكتب العاني هذه المسرحية . فموليير وبيراندللو سخرا قبله في مسرحياتهم من الأطباء وشعوذتهم التي يرمون من ورائها فقط إلى كسب الأموال من الناس البسطاء . وعلى الرغم من أن هذه الشخصية تحمل إنسانية كبيرة لكنها في الوقت ذاته تحمل عبثا وتهاوناً بحياة الناس ولعل هذا التناقض هو الذي جعل العاني يصورها بصورة قوية وكريهة . وربما هي معركة خاضها العاني في هذه المسرحية ليس فقط ضد مهنة الطب ومن يمارسها ، ولكن بصورة اعم واشمل ضد الفوارق الاجتماعية بصورة عامة والتي تجعل من كلب الأغنياء أفضل من إنسان الفقراء وهي مفارقة ساخرة . فجاءت مسرحيته بلهجة لاذعة حادة وناقدة ، حيث عمد العاني فيها الى ” شحن الكلمة بالنقد ، واحتواء العبارة على النقد والى جعل اللفظ موحيا بالسخرية . وقد أجاد العاني رسم الموقف الساخر والمفارقة القوية من خلال حوار الطبيب مع الخادم الذي خدمه لسنين طوال غير أنه كوفئ بالطرد لا لذنب جناه سوى أن الطبيب ظن أنه كان وراء سقوطه وكسر يده ويد كلبه . إن هذا الموقف عكس تلك الصورة الطبقية في المجتمع العراقي آنذاك والتي نجح العاني في إزاحة الستار عنها ، وما تكشف للمتلقي من صور أليمة ساخرة للطبقة الفقيرة.. أن سخرية العاني في مسرحياته تظهر تناقضات الحياة العراقية آنذاك بشكل يثير السخرية والاستنكار في آن واحد ، فهو يعرض لنا صوراً من الحياة العراقية تثير في الجمهور السخرية والاستهجان لأنها تظهر غريبة غير منسجمة مع المنطق والعقل . وهو لم ينقل الواقع كما تنقله آلة التصوير رغم أن موضوعاته واقعية جداً ، وإنما اختبر هذا الواقع وتعمق في فهمه ورسم لنا اشد جوانبه إثارة ودقة واصدر عليه حكماً قاسياً جعله موضوع السخرية والضحك.
Read original article on www.alhakikanews.com