ناجح المعموري
تمتع الديك بحضور يومي ورمزي في سيرة رماد يحيى الشيخ وظل فيها صاعداً ، معبراً عن طاقته الذكورية ، وقدرته على إيقاظ الجنسانية لحظة صياحه ، في كل الأوقات . وكان مثيراً لاستدعاء المرويات المحفوظة بذاكرة الكائن وهو يستحضر دور الديك المتباهي في خليج الملائكة وسط عدد من الدجاجات ، لأنه الذكر المتوتر دائماً ، لأن الفنان يحيى الشيخ ملتقط لرموزه من اليومي الشائع ، أو المألوف ، ولابد للتشكيل من رموزه الخاصة ، مع العلم بأن ما يصلح برمزيته في النثـر ، ممكن التوظيف في التشكيل وابتكار دلالاته الخاصة ، والجديدة.
كان الطاووس مزدهياً بحضوره في لوحة يحيى الشيخ ، بديلاً عن الديك . انه بديل جليل ، مهيب ، وصاعد أيضا لأن جسده يفضي في ما ينتج من تخيلات في ذهن المتلقي نحو فضاء الجنسانية أيضا . انه متحرك وسط سكونه ، مهيمن بما توفر له من مكان في اللوحة ، حتى تحول كله رمزاً قضيبياً بوقفته المتغطرسة هو شبكة من ألوان ، معلنة عن حضور معروف ومألوف ورمزي كذلك . ولأنه ، عبر الحضور ، ينطوي على نوع من التكرر الجنساني وإعلاء الجسد بما استطاع عليه يحيى الشيخ ، ليجعل من نظام الذكورة مجالاً ثقافياً ، اختزلته الصورة الخاصة بالطاووس . وكان جسده صورة . ودائماً ما يفضي الجسد نحو حضورات كثيفة ، وبوصفها صورة ، أو تنوعات ضرورية . وعلى الرغم من فردانية الطاووس في اللوحة ، إلا انه منتج للتصورات التي شغلت فضاء ثقافياً ودلالياً ، متوتراً ، ومحفزاً لاستمرار العلاقة مع اللوحة ومثلما قال فريد الزاهي : فاعلم انك خيال وجميع ما تدركه مما تقول فيه ليس إلا خيال . فالوجود كله خيال من خيال ….. يرتبط الخيال بالكثرة والحقيقة بالواحد . وذلكم دليل لكي يتمرأى الكثير في الواحد والواحد في الكثير من جهة ولتغدو المعرفة ممكنة من جهة أخرى . وبما أن حضرة الخيال تكون في المنام فإن المعرفة تبعاً لذلك لا تتم إلا بالتأويل ، أي برد الكثرة الى مآلها ، أي الى الوحدة .
نجد من هذا كله هيمنة للطاووس الواحد ، مع طغيان لما يحيل إليه من تخيلات كثيرة مفضية دلالة الى ذكورية معلنة عن كشوف الطاقة بانتصاب رقبة الطاووس وسكونها المتوتر وكأنه بتلك الحركة المخفية بالسكون يزاول وظيفته الجسدية عبر الظاهر من رمزيته المتشكلة بشبكة ألوان الريش ، الوسيطة في فضاء اللوحة مع موجودات ، لم تبتعد دلالياً عن ما تثيره الأجساد في اللوحة .
وقفة الطاووس المزهو بصعود جسده وسط الآخر ، ليعلن عن ” مكونات العلاقة البصرية . بيد أن الجسد الرائي يكون هو نفسه جسداً مرئياً . والعلاقة الغرابية بين الجسد الشخصي وجسد الآخر تخضع لمجموعة من المحددات المتعالقة التي يتداخل فيها الانطولوجي بالنفسي بالانثربولوجي ، مثلما قال فريد الزاهي .
تشكلت علاقة وثيقة بين الجسد والصورة . وهو كما قلنا ـ الجسد ـ باعتباره صورة حازت المهارة البنائية للوحة على طاقة فيها وفرة حرفية مبدعة ، للإعلان عن الحضور المشترك للاثنين وهما الجسد والصورة …. كلاهما اختصرا تماماً الأصول المعرفية لجينولوجيا الذكورة والأنوثة ، بعناصرهما الثقافية المعروفة .
يحيى الشيخ مبدع ، يتسلل دائماً للذاكرة التاريخية ويلتقط رموز مروياتها ، ويعيد انتاجها ، باعتبارها يوميات قابلة للاستدعاء وراضية بحضور ، يفتح لها منافذ نحو المستقبل ، أي باتجاه غير معروف . وهذا ما نقول عنه بالشعرية في اللوحة . ليس تجاور الأزمنة فقط ، بل ما كشفت عن يوميات كانت ، وما زالت ، مدونة بالصورة ، وشحناتها ترقبها للتحرك نحو المجهول بإيحاءات علاماتية ، ودلالات الرمز ، وحصراً ، ما أنتجته وقفة الطاووس ، ليعلن عن خطاب ذكوري ، مهيمن على فضاء الإناث ، مثلما فعله ديك لطلاطة وسط الإناث . قلنا بأن وجود الطاووس صعود للجنسانية بين البغايا المقدسات أو كاهنات الإلهة أنانا / عشتار التي اهتم بها الفنان يحيى الشيخ في عدد من لوحاته المعنية بعقائد طقوس الزواج المقدس وتحدث هو بشكل مركز عن ذلك ، وتمظهرت هذه اللوحات أكثر وضوحاً في كتابه الفني مبررات الرسم للطاووس ميثولوجيا ذات حضور حيوي ، لأنه رمز ديني ، وكل ما في الأديان له جذور أسطورية ، ففي المرويات أن الطاووس نزل الى الأرض مع حواء بعد طردها من الفردوس . وباختصار شديد ، يمثل الطاووس رمزاً في الميثولوجيا الايزيدية ، انه يمثل الملاك الأكبر ، وهو الروح الطاهرة لأنه يفضي الى الشمس الطاهرة دلالياً ، كذلك تمظهر عبر الكلية والتكامل في الديانة الايزيدية . وأنا اعتقد بأن عناية الفنان يحيى الشيخ به تعبير عن طاقته الجنسية ، ووقفته بين البغايا ، إعلان عن قدرة فائقة القوة وهو بذلك متجاور مع الديك في لطلاطة وخليج الملائكة . هذه اللوحة تمثل امتداداً للوحات التشكيلية المعنية بعقائد الجنس المقدس ، وتكاد تكون هذه التشكيلة كلها ، تجربة منفردة ومتميزة في منجز الفنان يحيى الشيخ الفني .
أساطير الزواج الإلهي المقدس منفذة بشكل مختلف ، فيه ابهار ، وإثارة مدهشة وتعلق قلق ولم تضعف هذه المواصفات على الرغم من تكرر لوحات هذه التجربة التي فجرتها علاقة ثقافية متوترة بعد الانتهاء من قراءة كتاب الأستاذ علي الشوك ” اقانيم اللغة والاسطورة ” ولم يسترح يحيى الشيخ الا بعد الانتهاء من اثنتي عشرة لوحة ، كرست بوضوح حاضر الاحتفاء بالزواج المقدس بوصفها طقساً سومرياً ، له وظائف دينية عديدة ، والخصب ابرز وظائفه الحياتية . وتبدت حضورات ميثولوجية انتقلت لهذه التجربة من فضاء آخر ، واعني به ملحمة جلجامش وتمظهرات أخرى جديدة عرفتها بلدان أوربا ولم تكشف مدونات الفن الشرقي عن حضور لها ، واعني بها فن الغروتيسك وكان استثماره مهماً ومحركاً لمستوى ونوعية العلاقة مع هذه التجربة الرائدة ، والجديدة كلياً في فضاء الفن التشكيلي المتسع والمتنوع كثيراً . وتبدو لي هذه التجربة استجابة سريعة ـ كما قال يحيى الشيخ ـ لكتاب الأستاذ الشوك ، لكنها انفتحت على مرجعيات أخرى ، كان لها حضور حاضر ، حسب مصطلح هايدجر .
لم يكن الطاووس كاشفاً عن غطرسة وخيلاء ، أو كبرياء ، بل هو فيضان طاقة ، شف عنها جسده الرمزي ، المكون من شبكة ألوان ، لها صفة دلالية . تأخذ المتلقي ، عبر معاينة التفاصيل اللونية الكثيرة نحو سحرية . هذا ما اوحت به رواية حجر الصبر لعتيق رحيمي عن ازدواج السحر والدين ، من خلال كتاب مقدس وحضور ريشة الطاووس الرمزي ، وضعت فاصلاً بين الشفاهي ودور الفتاة في الرواية ، لان وظيفتها شهرزادية واعترافيه ، وبين التدوين الذي ستنجزه ريشة الطاووس لاحقاً باعتبارها رمزاً قضيبياً ملوناً ، هكذا تفجرت غرائبيتها بفعل الكائن الدلالي / الرمزي .
في لوحة ” مومسات مقدسة ” زيت على خشب 40×60 أربع مومسات في الجزء السفلي من اللوحة ، وهو الأكبر ، ومومس واحدة فقط في الجزء العلوي مع ثلاثة قردة . اثنان منهما يرنوان لواحد يعلن تباهيه بذكورته المنتصبة الملقاة على ظهر المومس الجاثية وسط مكان مقدس ، وحتما هو المعبد ، لأن مثل تلك المزاولات لا تكون في مكان غير ديني ، لأنه ـ الجسد ـ يمنح الآخر طاقة هيجان وقوة توتر متصاعد تدريجياً . واستعاد القسم العلوي من اللحظة تجربة الغروتيسك التي اشرنا لها قبلاً وقد درسها باختين في كتابه الموسوعي ” أعمال فرانسوا رابليه والثقافة الشعبية في العصر الوسيط وإبان عصر النهضة . في الجزء السفلي من اللوحة ، أربع مومسات ، يعاودن التأكيد على الدلالة الرمزية للعدد أربعة وارتباطاته مع المكان وجهاته وجدرانه ، والعلاقة الخفية مع الإله انكي ورمزه السحري المعروف . والاهم من كل هذه التفاصيل الحضور الأول للعدد أربعة في تجربة يحيى الشيخ والتي ارتحلت معه الى خليج الملائكة ، حيث الدجاجات الأربع ، وفحولة الديك المحافظ على موازنة واستمرار الطاقة بعلاقته الجنسية مع الدجاجات . وتكرار هذا العدد يومئ لأصل مبكر في ذاكرة العائلة ومرويات الخصوبة الكثيرة والمتكررة عند ضفة النهر ، حيث كانت ولادة الذكر الأول في العائلة وسط أربع بنات . ويلاحظ دور العدد أربعة وما ينطوي عليه من رمزيات كثيرة في الثقافة والفكر العربي والإسلامي والتي صعدت له من حضارات سومر وأكد وهي تعلن عن تجددات حضورها الروحي في تجربة مبدع قاوم عبرها قسوة المنفى وظل مستحضراً ما يجعل من الروح قوية ومقاومة الانهيارات التي تركض وراء المنفى دائماً ، من هنا كان يحيى الشيخ يرمم بما هو ثمين فراغ لوحاته ، ويعيد بناء الروح الخفية . الطاووس في هذه اللوحة الفحل الموازي لديك لطلاطة والملائكة ، قبل أن يذهب ويجده هناك . وستظل وقفة الطاووس مماثلة لرقصة صامته ، بعد فوز بمعاينة الأجساد الأنثوية الأربع .
لقد أعلن هذا الفحل المتباهي بوفرة الجسد ، عن ديمومة حضور طقس الإلهة أنانا / عشتار . وهو طقس متنوع انفتح على عديد من الرموز ، اعتقد بأنها تحتاج منا عودة للحفر عن ذاكرة الاسطورة وعقائد وطقوس الفاعل الديني والميثولوجيا المتسعة ، انها تجربة جديدة ، جاءت لنا مثقلة بالمعرفة والثقافة . وهذا ما تمظهر عن اثنتي عشرة لوحة وهي كافية لكي نستمر لاحقاً بالقول عنها وتعريف الآخر بها.