قراءة هادئة في دعوة السيد علي الأديب لألغاء مجانية التعليم
طاهر البكاء
تموز 2016
طالب السيد علي الأديب عضو البرلمان العراقي ووزيرالتعليم العالي والبحث العلمي السابق الغاء مجانية التعليم في المستويين الجامعي والثانوي والاكتفاء بمجانيته في مرحلتي الدراسة الابتدائية والمتوسطة ، وعزا ذلك إلى الكلف العالية التي تتحملها خزينة الدولة ، وقال إن كل طالب جامعي يكلف الميزانية العامة 13 مليون دينار عراق أي مايقارب 10 ألف دولار أمريكي .
أقول إن التعليم بشكل عام وفي كل مستوياته أصبح متاحاً كالهواء بموجب قرارت مجانيته 1973 ، و شرع قانون التعليم الإلزامي رقم (118) لسنة 1976 ، الذي فرض على كل عائلة عراقية قانونيا تسجيل أبنائها وبناتها حين بلوغهم السادسة من العمر في المدارس الابتدائية ، وبعكسه تتعرض العائلة إلى مسائلة قانونية منها السجن والغرامة المالية ” ” وطبق هذا القانون في جميع أنحاء العراق ابتداءاً من العام الدراسي 1978 – 1979 ، وحسب تقرير اليونسكو إمتلك العراق قبل حرب الخليج الأولى 1980 ، نظاما تعليميا يعد من أفضل أنظمة التعليم في المنطقة ، قدرت نسبة المسجلين بالتعليم الابتدائي ما يقارب 100% . إذ بلغت حصة التمويل التربوي 6% من الناتج القومي و 18% من الموازنة العامة للدولة ” “. ، على الرغم من كل الظروف القاسية التي مر بها العراق من حروب عبثية وحصار جائر والتي تركت تأثيراً سلبياً هائلاً على الأوضاع المعاشية للناس ، بحيث أصبح رغيف الخبز الأبيض شحيحاً بل غير متوفرٍ بالمطلق، إلا لذوي الحظ العظيم ، حتى أن النظام أصدر حينئذ قوانين غير مألوفة ، لعل أبرزها إنزال عقوبة الإعدام بمن يقوم بتصنيع أي نوع من الحلويات ، وبالرغم من كل هذه القسوة إلا أن النظام لم يتحرش بمجانية التعليم ، لكنه، بلا شك ، اضطر إلى تقليص الإنفاق على التعليم بكل مستوياته .
وحتى قبل قرارات 1973 أي في ستينيات القرن الماضي ، كان التعليم مجانياً في كل المستويات ، والسيد علي الأديب نفسه أنهى دراسته الإبتدائية والثانوية والجامعية مجاناً ، ونال درجة الماجستير 2009 دون أن يدفع أي مبلغ.
نصت الفقرة ثانياً من المادة 34 من الدستور العراقي الدائم لسنة 2005 على ( التعليم المجاني حقٌ لكل العراقيين في مختلف المراحل) ” ” ، وعليه يكون السيد علي الأديب ، الذي كان عضواً فعالاً في لجنة كتابة الدستور ، قد ارتكب مخالفة دستورية بطرحه اقتراح إلغاء مجانية التعليم في المستويين الجامعي والثانوي.
قال السيد علي الأديب إن كلفة الطالب الجامعي الواحد يكلف الخزينة العامة 13,000,000 دينار عراقي ، وحسب تقرير وزارة التعليم العالي والبحث العلمي الصادر 2014 فإن عدد الطلبة الملتحقين فعلياً بالدراسة الجامعية الأولية للسنة الدراسي 2012 – 2013 بلغ 151,483 طالباً وطالبة ” ” وإذا اعتمدنا هذا الرقم كمعدل للقبول لأربع سنوات يكون عدد طلاب الجامعات العراقية 605,932 طالباً وطالبة ، وبحساب كلفة الطالب الواحد 10 آلاف دولار أمريكي يكون مجموع ما تنفقه الدولة على طلاب الدراسات الجامعية الأولية فقط 6,059,320,000 دولار أمريكي وهذا رقم فلكي كبير ، وإذا أضفنا لهذا الرقم كلفة طلبة الدراسات العليا الذين بلغت أعدادهم للسنة الدراسية ذاتها في مرحلة الدكتوراه 4389 والماجستير 18102 والدبلوم 1815″ ” فإن الكلفة تكون كبيرة ايضاً. وهذا التكلفة المادية أكبر بكثير من الميزانية المخصصة لوزارة التعليم العالي والبحث العلمي ، وعليه لابد للسيد علي الأديب أن يوضح كيفية استدلاله على الكلفة السنوية للطالب الجامعي الواحد.
يبدو أن السيد علي الأديب طرح هذا الرأي متأثراً بالأزمة الاقتصادية التي يمر بها البلد ، وليس عن قناعة فلسفية ، بدليل أنه في مدة استيزاره 2010 -2014 أسس 10 جامعات جديدة فضلا عن الكليات والأقسام العلمية ، وتوسع القبول في الدراسات العليا خلال تلك المدة بشكل كبير، دون مراعاة حاجة سوق العمل لأصحاب الشهادات العليا.
ماهو الحل ؟:
كان على السيد علي الأديب أن يطرح الموضوع بطريقة ثانية وهو السياسي المخضرم والمتخصص في علم النفس ، وكان لابد أن يدفعه اختصاصه وتجربته السياسية والوظيفية إلى تبني فلسفة تربوية تبني الإنسان علمياً وسلوكياً.
من المعروف أن كل مايحصل عليه الإنسان بسهولة يفقده بسهولة أيضاً ، بعبارة أخرى ، إن الإنسان يحرص على مايحصل عليه بكده ومعاناته ، أما ما يأيته دون معاناة فيستهين به ولا يحرص عليه .
إن من أبرز السلوكيات الخطيرة في المجمع العراقي ذلك العداء بين المواطن والملكية العامة ، إذ لا يحرص المواطنون بشكل عام على الملكية العامة ، ويتعمد كثير منهم تخريبها ، الأمر الذي يمكن تلمسه بسلوك المراهقين في تكسير مصابيح الشوارع التي تنير لهم ولغيرهم الطرقات، وكذا مع مقاعد الباصات والقطارات ومقاعد الدراسة في المدارس. لكنهم لايقومون بذلك في الملكيات الخاصة ، لأنهم سيتعرضون للمحاسبة المباشرة عن أي أذىً يلحقونه بتلك الملكيات.
لابد من الاعتراف هنا أن هناك هدراً كبيراً بالمال العام ، وإنفاقاً لامبرر له نتيجة ذلك السلوك الاجتماعي ، وبغية تشذيب ذلك السلوك ، والحد من الهدر بالمال العام ، لابد من تبني سياسات في مختلف المجالات والحقول تهدف إلى بناء الإنسان أولاً ، ومن تلك الحقول قطاع التعليم .
لذا فبدلاً من إلغاء مجانية التعليم في المستويين الثانوي والجامعي لابد أن نعالح إيقاف الهدر أولاً ، بتبني فلسفة تربوية وتعليمية توفر الفرص للراغبين بإكمال دراساتهم بجدية ، وتضع حداً للمتطفلين على تلك الدراسات.
ومن أجل تحقيق ذلك أقترح مايلي :
1- تأسيس صندوق تسليف الطلبة ، يغطي هذا الصندوق الكلف الدراسية للطلبة ونفقات معيشتهم ، عبر دائرة في كل جامعة. يقوم الطالب بتسديد تلك الكلف بعد تخرجه وحصوله على عمل بأقساط شهرية ولمدة طويلة.
2- بغية دعم وتشجيع الطلبة المتميزين لابد من وضع برنامج لإسقاط نسبة من تلك السلف في حالات محددة مثل إنهاء الطالب دراسته دون رسوب، وحصل على معدل ممتاز يعفى من كل القسط او نسبة عالية جداً منه ، واذا حصل على معدل جيد جداً يعفى من نسبة أقل وهكذا تنازلياً.
3- تحميل الطالب الكلفة المادية عن كل سنة رسوب ، ولا يشمل بأي تخفيض من نسبة السلفة ، حتى وإن حصل على تقدير جيد في المعدل النهائي للتخرج. ويشمل في حالة كان معدله العام بتقدير امتياز فقط.
4- بغية تخفيف العبء عن الجامعات الحكومية ينبغي تطوير التعليم غير الحكومي وذلك بتشديد شروط منح إجازات التأسيس لأي مؤسسة غير حكومية وفرض رقابة صارمة عليها ، من خلال جهاز الإشراف والتقويم. وإخضاعها لتقيم أداء سنوي جدي.
5- ومن أجل دعم التعليم غير الحكومي والنهوض به لابد من شمول الطلبة الملتحقين فيه بالسلف التي يمنحها صندوق تسليف الطلبة.
6- تحديد أعداد الطلبة المقبولين في كل قسم علمي وفقاً لحاجة سوق العمل ، وقابلية القسم العلمي.
7- الاهتمام بالتعليم التقني الوسطي ، لحاجة البلاد الكبيرة للكوادر الوسطية ، صناعية ، تجارية ، زراعية .
8- أما على مستوى الدراسات العليا ، فمن الضروري جداً إيقاف القبول في كل الأقسام العلمية التي لا تتوافر فيها شروط فتح مثل هكذا دراسات ، وتقليص القبول في الأقسام الأخرى التي استكملت الشروط ، ووضع ضوابط ثابتة للقبول يكون المعيار الوحيد لذلك هي المفاضلة العلمية لاغيرها . وذلك وفق حاجة البلد للاختصاصات ، فمثلاً يقبل الناجح الأول فقط من الأقسام التي تكون الحاجة محدودة جداً لذلك الاختصاص ، والناجحان الأول والثاني في الأقسام التي يحتاج البلد لذلك الاختصاص وهكذا دواليك ، وبذلك نقضي على أي تدخل أو استثناء يمارسه هذا الوزير أوذلك المسؤول .
9- لكن قبل كل ذلك يجب أن نخلص التعليم من التدخلات السياسية والحزبية ، وأن تمنح الجامعات إستقلالية حقيقة ، برفع الغطاء الثقيل الذي تمارسه الوزارة عليها ، وأن نتمسك بفلسفة تربوية ، لا بسياسة هذا الوزير ومزاجه أو ذاك.
هذه آراء أردت أن أساهم فيها لتطوير التعليم في بلادي ، وهي قابلة للتعديل والإضافة من قبل المختصين ، واللهُ والوطنُ وأبناؤه من وراء القصد.