العمة اليزابيث.. الآثارية التي احبت العراق!
عبدالجبار جعفر
لجمعة 10 شباط 2017اا
حدثني عنها كثيرا وعن مواقفها اتجاه اثار العراق واثارييه من الطلاب والباحثين الذين احبتهم كثيرا واحتضنتهم، بضمنهم محدثي سواء يوم التقته، لاول مرة،عندما كان يحارب وحده بسيف من خشب محاولا الوصول للقوة الامريكية التي اتخدت من متحف الناصرية مقرا لها عند احتلال العراق في 2003 من اجل طلب مساعدتهم لطرد جناة الليل، والسراق الذين قاموا بنبش ونهب المواقع الاثرية وتوفير الحماية لها، او عندما سهلت له الوصول الى الولايات المتحدة من اجل اكمال دراسته العليا والحصول على شهادة الدكتوراه في الانثربولوجيا، او من خلال مساعدته في اكمال رحلة علاجه الاخيرة التي تكفلت بتغطية تكاليفها جامعة ستوني بروك، حيث أجريت له عملية جراحية كبرى لازالة ورم يُعتقد انه نتج عن ضربة في الرأس عندما اعتقلته عناصر امن النظام السابق.
يقول محدثي، الدكتور عبدالامير الحمداني التقيت الباحثة الكبيرة اليزابيث ستون، لاول مرة في شهر نيسان عام 2003 في الناصرية، حينما تعرض المتحف العراقي والمواقع الاثرية في الجنوب الى سرقات، حيث قرر فريق من الاثاريين الامريكان المجئ لتفقد المتحف في بغداد، وحث الجيش الامريكي لتوفير الحماية له والمواقع الاثرية الاخرى حيث انقسم الفريق الى قسمين، ذهب قسم منهم بصحبة عالم الاثار مكوايركبسون – الذي طالب البنتاغون بتوفير الحماية للمواقع الاثرية قبل بدء العمليات العسكرية لكنه لم يجد اذانا صاغية – باتجاه الموصل لتفقد الاثار هناك وتوجه القسم الاخر، الذي ضم اليزابيث ستون الى الناصرية وكان الوفد قد جلب معه معدات وكنت حينها احاول الاتصال بالقوات الامريكية المتواجدة في الناصرية ومنطقة اور لكن لم يستمع الي احد، ثم تعرفت على احد الضباط الامريكان الذي كان لديه معرفة بمجال الاثار الذي تفهم الموقف لكنه لم يتمكن من مساعدتي. وفي احد الايام توجهت والصديق المترجم امير دوشي حين اخبرنا احد الضباط ان هناك فريقا اثاريا امريكيا موجودا وكان وقتذاك لقائي الاول بالباحثة الكبيرة اليزابيث ستون التي عملت لاول مرة في العراق في مدينة الديوانية عام 1973. عندما رأتني كانت دهشتها كبيرة ان ترى شخصا في ظروف صعبة وحرجة يبحث عن اثار بلاده التي تعرضت للنهب والتدمير عند دخول القوات الامريكية للعراق واحتلاله في عام 2003، في الوقت الذي لم يغادر فيه معظم موظفي الاثار بيوتهم.
لقد تعرض الحمداني للاهانة والطرد مرات عديدة على يد الجنود الذين احتلوا المتحف لكن اصراره وعصاميته وحبه لتراث بلده قد اثار اعجاب اليزابيث به ووجدته الرجل المناسب الذي يُعتمد عليه وبذلك طلبت من القوات الامريكية التعاون معه لحماية المواقع الاثارية وقالت لهم انه يمثل هيئة الاثار ويمثل العراق وهو يعرف ماذا يفعل، وطلبت منهم المحافظة على المتحف ومقتنياته وان يخرجوا الدوريات للمحافطة على المواقع الاثارية ومنع عمليات النهب. بعدها اتفقت معه من اجل اللقاء في اليوم التالي لتفقد بعض المواقع الاثارية مثل لارسا واريدو ولكش ومواقع اخرى.
ويضيف عبدالامير بانه بدأ يلمس استجابة واضحة وتعاون من قبل القوات الامريكية التي توجب عليها وفق القانون حماية الاثار. وخلال الشهر الخامس والسادس والسابع من عام 2003 بدأت القوات باخراج دوريات لحماية المواقع الاثارية في مناطق مختلفة من محافظة ذي قار وكانت النتائج جيدة حيث استطعنا ايقاف عمليات النبش والنهب للاثار واعادة قسم من القطع الاثارية التي تم نهبها. والامر الذي ساعد كثيرا هو مقابلتي للمرجع الاعلى السيد السيستاني الذي تفهم المشكلة واصدر فتوى بتحريم سرقة الاثار والمتاجرة بها.
كان مجيئ اليزابيث وباقي اعضاء الفريق امريكي من علماء الاثار قد ساعد كثيرا في انقاذ مايمكن انقاذه ونفس الوقت قد اثار دهشة الجميع حينما جاء محملا بمعداته، قاطعا الاف الاميال لتفقد الاثاروالدهشة ذاتها اصابة الفريق الامريكي عندما وجد، في ظل الفوضى والفلتان الامني، شخصا نحيف البنية مثل عبدالامير، ممن يحرص على الاثار ويعرض حياته للخطر بالخروج للارياف والصحراء لمعاينة التلال والمواقع الاثارية واستعادة ما نهب منها.ويضيف عبدالامير:قمت بجرد 300 تل وكان من المفروض بعدها ان اسافر في عام 2005 لاكمال دراستي العليا لكن اصرار وزير الثقافة انذاك بعدم الموافقة على ذهابي الى الولايات المتحدة حال دون ذلك لحين تبدل الوزيرفي عام2008 ومجيء وزير اخر قد وافق على سفري لتبدأ رحلتي مع الدراسة خارج العراق.
يقول الحمداني: كان لقائي باليزابيث ستون مثمرا حيث كان اهم مافيه انني التقيت على، ارض الواقع، بعلماء كبار كنت قد قرأت عنهم لكنني لم ارهم مثل مكوايركبسونوهنري رايت بالاضافة لاليزابيث. ومن بين ماقامت به اليزابيث هو تجهيز المتحف العراقي بأجهزة، ومعدات، وكمبيوترات، واثاث، وكاميرات واجهزة تصوير (اسكانر) بالاضافة للكتب، حيث استحصلت موافقات الجامعات الامريكية للحصول على نسخ اضافية من الكتب الموجودة في مكتباتها وقامت بشحنها للعراق. فقد زودت مكتبة المتحف العراقي بـ 4 آلاف كتاب ومثلها الى هيئة الاثار و 4 آلاف اخرى الى قسم الاثار في الموصل. كما انها قامت بتدريب الكوادر العراقية سواء من هيئة الاثار او الجامعات العراقية من حملة الماجستير والدكتوراه لمدة تسعة اسابيع في الاردن وعلى حسابها الخاص وكنت شاهدا على ذلك.
كما قامت باستصحاب خمسة طلاب من هيثة الاثار، وجامعة الموصل، وجامعة بغدادالى جامعة ستوني بروك في نيويورك حيث اكملوا دراستهم هناك ومُنِحوا شهادات الماجستير والدكتوراه في مجال الاثار وقد عاد بعضهم للعراق اما البعض الاخر فلم يعد. كما انها استضافت كوادر عراقية في جامعة ستوني بروك وقامت بتدريبهم على استخدام التقنيات الحديثة في تحليل الصور الجوية ورسم الخرائط واستخدام نظم المعلومات وعادوا الى بغداد واسسوا قسم التحسس النائي في هيئة الاثار، وكانت هذه بجهود خاصة وبمساعدة منظمة (يواس أيد) كما انها حصلت على تمويل لتدريب الكوادر العراقية في الخارج ودعمت مشروع ارشفة التراث العراقي من خلال جمع الكتب التي صدرت عن المدن والمواقع الاثارية العراقية باللغتين الانكليزية والفرنسية منذ عام 1919 الى عام 2005 وقامت بشراء حقوق النشر من المؤلفين ووضعته في موقع اسمه ارشيف مواقع وادي الرافدين الاثرية.كانت اليزابيث ستون اول باحث كبير يذهب الى العراق بعد 2003 ويستأنف التنقيبات و العمل الميداني حيث فتحت الباب على مصراعيه امام البعثات من دول العالم الاخرى التي تهتم بتاريخ وتراث العراق وشجعها على القدوم والتنقيب في جنوب العراق.وجاء دخولها بالتحديد في 17 كانون الاول 2011 بعد خروج القوات الامريكية من العراق لانها اصرت على عدم دخوله من اجل العمل الميداني والتنقيب في المواقع الاثرية الا بعد خروج قوات الاحتلال.
التقيت الدكتورة اليزابيث ستونلاول مرة في عام 2014 في المؤتمر الذي اقامه المركز الثقافي العراقي في واشنطن حينذاك كنت اعمل في قسم العلاقات العامة،حيث القت بحثا نال اهتمام الحاضرين. كانت ترتسم على محياها علامات العصامية والجد حيث لم الاحظها تبتسم او تجامل طيلة فترة المؤتمر هذا الامر دفعني لان اسأل عبدالامير وهو الاكثر قربا منها فقال: هذه العصامية والصرامة في مجال العمل تخفي ورائها قلب طفل خالي من العقد، تغلفه الطيبة، وخال من التحامل على الاخرين لكنها في نفس الوقت لاتجامل ولا تحابي احد على حساب الجانب الاكاديمي والعملي، تثق بالاخرين وعندما تتخذ موقفا ما لا تغيره بسهولة.وهي انسانة تتصف بالكرم قل مثيله بين كل الذين التقيتهم من الباحثين والاكاديميين الامريكيين، في زيارتك لها في البيت تلمس وجهها الانساني الذي يختلف تماما عما هي عليه في العمل، تجدها انسانا اخر يجامل ويضحك تمتلك قدرا كبيرا من الطيبة ودماثة الخلق والكرم حيث عندما كنا نخرج معها ونحن طلاب في مرحلة الدكتوراه كانت هي المضيف دائما لاتسمح لنا بدفع فاتورة المطعم بل هي من تقوم بدفعهاوهي على الدوام تستضيف الطلاب العراقيين الذين يأتون لجامعة ستوني بروك وتتكفل باطعامهم واسكانهم في بيتها حيث خصصت غرفة لهم اطلقوا عليها (الغرفة العراقية)، عندما تدخل تشعرانك في غرفة من غرف البيوتات العراقية التقليدية. وفي غرفة اخرى تجد لوحة معلقة للفنان كامل الموسوي واخرى للخطاط عامر الجميلي وصور لبعض المواقع الاثارية التي عملت فيها في الديوانية والناصرية.
وبعد ان انهى الحمداني المرحلة الاولى من علاجه في مستشفى ستوني بروك انتقل للاقامة في بيت اليزابيث ستونوزوجها العالم باول زمنسكي استاذ التاريخ القديم في جامعة ستوني، وقد خصصت له غرفة، جعلته يشعر وكأنه في بيته، ووضعت بجوار سريره طاولة وضعت عليها كراس صغير ليكتب عليه مايحب ان ياكل ذلك اليوم لتقوم بطهيه له عالمة الاثار والباحثة الكبيرة- التي أطلَقْتُ عليها لقب العمة – التي تجيد فن الطبخ كاجادتها فن البحث عن الكنوز في مواقع ارض الرافدين الاثارية!