مكافحة الفساد تحتاج لستراتيجية لا إجراءً أحاديا
عبدالجبار جعفر
الاثنين 17 نيسان 2017
لا يختلف اثنان على ان نظام المحاصصة الطائفية الذي تبنته الاحزاب السياسية التي حكمت العراق بعد سقوط النظام الديكتاتوري في 2003 كان وراء حالة التردي والوهن الذي اصاب الدولة العراقية. وذلك بسبب تفشي حالات الفساد بكل انواعه- انتشار المحسوبية وسرقة المال العام والتحايل والالتفاف على القانون.
وكان ذلك بسبب وصول طبقة من الاشخاص الى مفاصل الدولة العليا، من الذين جاءت بهم الاحزاب نتيجة المحاصصة حيث كان معظمهم يفتقر الى النزاهة والحنكة، او عدم الكفاءة في القيادة، ولا يتمتع بالمؤهلات العلمية ولا الخبرة العملية والادارية التي تؤهله لتبوء المناصب المهمة والحساسة في ادارة الدولة. وهذا الامر ساعد على صعود طبقة (الحرافيش) التي تغلغلت في معظم دوائر الدولة بسبب المحسوبية ولقربهم من هؤلاء المسؤولين سواء كانوا وزراء، او وكلاء وزارات، او مدراء عامين او غيرهم في سلم المسؤولية ليشكلوا مافيات الفساد، التي تسيطر على معظم دوائر الدولة.
إن الفساد هو أشبه بورم خبيث لا يمكن علاجه الا من خلال اتباع عدة مراحل من العلاج لاجل القضاء عليه، وليس باجراء واحد اي بوصفة واحدة كما هو الحال مع الامراض السائدة التي تصيب بني البشر. واولى مراحل العلاج تبدأ باستئصال الورم ثم يتبعها اخضاع المريض الى الاشعاع، لتأتي المرحلة الاخيرة وهي العلاج الكيمياوي (الكيموثربي). اذن عملية التخلص من هذا الورم الخبيث لا تتم باجراء واحد، بل بعدة اجراءات. ونفس الشيء مع الفارق، ينطبق على سرطان الفساد الذي اصاب الجسم العراقي وانهكه، حيث لا يمكن علاجه بوصفة واحدة، بل لابد ان يتم العلاج بمراحل، وهنا يكون اختلافي مع السيد العبادي، رئيس الوزراء، الذي زار الولايات المتحدة في الشهر الماضي، وكنت قد وجهت له سؤالا عند لقائه مع الجالية العراقية في واشنطن، حول ستراتيجية الحكومة لمكافحة الفساد، فقال ان الحكومة قد اوكلت المهمة لاحدى المؤسسات الدولية من اجراءات التدقيق وكشف المتورطين في الفساد. وهذا يعتبر بمثابة اجراء واحد لايمكن له ان يستأصل مرض الفساد الذي استفحل، وبدأ يتحول الى ثقافة تتجذر في المجتمع كلما مرت الايام والشهور. وذلك لان هناك فئات مستفيدة اخذت تروج لهذه الثقافة التي تتنافى وكل القيم والاعراف السائدة، من خلال ايجاد تبريرات واهية واحيانا الاستعانة ببعض ممن يدعون رجال دين من الذين ركبوا الموجة واستغلوا الدين لتنفيذ ماربهم الشخصية.
وهذا يتم من خلال ايجاد التبريرات اللامنطقية لاعمال الفساد السائدة في المجتمع. واذا ما اردنا استئصال الفساد بشكل نهائي، ما علينا الا وضع ستراتيجية تشتمل على عدة اجراءات يتم تنفيذها وفق مراحل لحين وصول الهدف الذي يقضي بالتخلص من هذه الافة المدمرة. وتتضمن المرحلة الاولى، اطلاق حملة توعية شعبية من اجل تنبيه عامة الناس الى خطورة الافكار، والاراء التي تروج للفساد وتبرر الممارسات التي تنطوي على سرقة المال العام وتفنيدها، واعتباره عملا مشينا ترفضه كافة الاديان ويتنافى ومنظومة الاخلاق الانسانية.
ومن المهم ايصال رسائل واضحة ومباشرة الى المواطنين تلفت انتباههم الى ان محاولة التغطية او السكوت على الفساد بكل انواعه، خطأ كبير ادى وسيؤدي الى نتائج كارثية في كافة مناحي الحياة. ولكي تجد تلك الرسائل اذانا صاغية من قبل العامة يجب ان تُكتَب بلغة بسيطة ومفهومة تحاكي القيم التي يحملونها، وتحاكي مصالحهم، واخلاقهم واحتياجاتهم النفسية والاقتصادية.
ان الغاية من هذه الرسائل هي تغيير سلوكية وطريقة تفكير افراد المجتمع وجعلهم يتخذون موقفا حاسما ضد كل ما من شأنه يشكل ضررا للمجتمع لتعم الفائدة على الجميع. يعتقد احد الباحثين في مجال الاتصال ان الناس لايتفاعلون او يستجيبون للرسائل الموجهة لهم الا اذا كانت تركز على احتياجتهم او مصالحهم او همومهم.من الضروي ان يدرك الجميع ان كل واحد منهم لن يسلم من تداعيات الفساد، وانه يدفع الثمن وافراد اسرته بشكل مباشر اوغير مباشر. لابد ان يدرك المواطن ان احد اسباب تدهور التعليم هو الفساد، وان غياب الامن وازهاق ارواح الاف الابرياء بسبب الخروقات الامنية، سببه الفساد، وان تدهور قطاع الصحة وتفشي الامراض سببه الفساد، ورداءة الحصة التموينية سببه الفساد وسوء الخدمات البلدية وعدم انتظام المنظومة الكهربائية سببه الفساد، وتلوث البيئة ورداءة الماء الصالح للشرب، سببه الفساد واشياء كثيرة عندما تدقق بالاسباب التي ادت الى وقوعها ترى ان الفساد – السياسي اوالاداري او المالي – احد اسبابها ومنها تَغلغُل الارهاب في المحافظات وسقوط بعضها بيد داعش وتهجير السكان لاسباب طائفية او عرقية.
من هنا يكون واجبنا اقناع المواطن العراقي على ان كل ما يتعرض له الوطن والمواطن، من ويلات ومصائب يرجع سببه الى نوع من انواع الفساد. يقول احد الباحثين في مجال الاتصال ان مايدفع الناس الى الاهتمام او الانغماس في قضية ما او الانصات الى الرسالة الموجه لهم هو فقط عىدما يرونها تحاكي احتياجتهم النفسية والاقتصادية او تبدد مخاوفهم. ويرى فيستنر في نطريته “التنافر المعرفي” ان الناس لا يؤمنون بالرسائل التي تتعارض وميلوهم ما لم يتمكن صاحب الرسالة من تقديم معلومات تزعزع ثقتهم بما يعتقدون به.
بما ان الفساد اصبح ظاهرة خطيرة تجتاح العراق وان جذورها بدأت تتأصل في المجتمع العراقي، فقد باتت الحاجة ملحة لوضع منهاج تعليمي لكل مراحل الدراسة يتناول موضوع الفساد بكافة انواعه وتداعياته، من حيث تاثيره المباشر على المجتمع ووسائل معالجته وبيان موقف الاديان السماوية من هذه الظاهرة الهدامة. ويمكن توجيه رسائل للمجتمع من خلال بث واذاعة البرامج المتتنوعة التي تثير اهتمام الجمهور. وعقد ندوات لقادة المجتمع واصحاب الفكر والرأي لكي يسلطوا الضوء على الاثار المدمرة لافة الفساد.
يعتبر اشراك المجتمع في ستراتيجية مكافحة الفساد امرا مهما، لان الاجهزة الرقابية التي لم تصبها جرثومة الفساد قد لا تكفي، مهما بلغ عددها، من اجل السيطرة او متابعة المفسدين. ان كل مواطن يمكن ان يكون عينا للرقيب او رقيبا اذا ما مارس دوره كما ينبغي لانه المتضرر الاول والاخير من الفساد وهنا نكون قد انجزنا اهم مرحلة من مراحل ستراتيجيتنا لمحاربة الفساد وهي توعية المجتمع. والجميع هنا مطالبون بالاشتراك في حملة التوعية من سياسيين واعلاميين وفنانيين ورجال دين ومعلمين واساتذة الجامعات وكل من موقعه من اجل حث وتشجيع المواطن على المساهمة الفعالة في الحملة الهادفة الى تطهير المجتمع من وباء الفساد.
اما المرحلة الاخرى فتتعلق بصياغة وتشريع القوانين التي تحد من الفساد العام من خلال تجريم المفسدين واحالتهم الى القضاء بغض النظر عن المنصب اوالمكانة الاجتماعية التي يحتلونها، على ان يتعدى ذلك الى المواطن اوالمؤسسة او الشركة التي تشترك في عملية الفساد من خلال دفع الرشى والعمولات الكبيرة لتسيير او تنفيذ اعمالها بشكل غير قانوني. ان الهدف من ذلك هو تحقيق العدالة وجعلها سيفا مسلطا على رقاب المفسدين اينما ومهما كانوا. وهناك خطوة اساسية ينبغي اتخاذها الا وهي اعداد وتهيئة الكوادر القانونية المستقلة والكفوءة من اجل تطبيق القوانين لان القانون لايطبق نفسه بنفسه بل يحتاج الى كادر قانوني متمرس، ونزيه وغير منحاز بدأ من القضاة الى المحقيقين العدليين، الى المشاورين القانونيين الى اصغر موظف في هيثة القضاء. على ان تتزامن مع مرحلة اعداد وتهيئة الكادر، عملية تنظيف لجهاز القضاء من المفسدين سواء اكانوا قضاة او كوادر تحقيقية او ادارية لان القوانين تبقى مركونة على الرف مالم يأتي كادر متحمس ونظيف يعمل على تطبيقها.
ويمكن الاستفادة من هيئة النزاهة لتنفيذ ستراتيجية مكافحة الفساد بعد ان تتم اعادة هيكلتها ونقل كافة الكوادر التي جاء بها نظام المحاصصة الطائفي والحزبي ممن لايمتلكون المؤهلات المهنية والعلمية التي تساعد على بقائهم للعمل في الهيئة، والبحث عن الكفاءات الشابة والنزيهه من حَمَلَة الشهادات الجامعية لانتدابهم للعمل في الهيئة بعد ان يتم اشراكهم في دورات تدريبية مكثفة من اجل اعدادهم اعدادا جيدا لممارسة مهام عملهم بشكل صحيح.
اما المفتشون الذين يتوزعون على الدوائر الحكومية فيجب فك ارتباطهم من دوائرهم واعادة ربطهم بهيئة النزاهة مباشرة من اجل مراقبة ادائهم بشكل مستمر لان بعضهم قد يكون تورط بشكل مباشر او غير مباشر ببعض اعمال الفساد التي تديرها شبكات الفساد التي تسيطر على الدوائر الحكومية، او احيانا عدم قدرته على مواجهة الوزير او رئيس الدائرة فيكون حاله حال اي موظف عادي ليس له اي تأثير على مجريات الامور.
وبعد اتمام هذه المرحلة ننتقل الى المرحلة الاخرى وهي انشاء جهاز امني خاص بهيأة النزاهة يرتبط برئيس الهيئة مباشرة من اجل ملاحقة المتورطين بالفساد ممن صدرت بحقهم اوامر قبض من قبل قاضي تحقيق خاص يرتبط ارتباطا مباشرا بهيئة النزاهة. أن التطبيق الفعلي للقانون لابد ان يتم من اجل ان تأخذ العدالة مجراها ولابد من احالة السياسيين الذين تورطوا بقضايا فساد او من اللذين تحوم حولهم الشبهات الى القضاء لينالوا جزائهم العادل.
ان ستراتيجية مكافحة الارهاب يجب ان لا تقتصر على المسؤولين العراقيين او الشركات العراقية، بل يتعداه الى الشركات العالمية العاملة في العراق، والتي قد ترتكب مخالفات تنطوي على حالة مختلفة من حالات الفساد، فمن اجل ضبط ادائها ومراقبة ممارساتها ينبغي للبرلمان العراق ان يسن قانونا اشبه بالقانون الامريكي لمكافحة ممارسات الفساد الخارجية FCPA وهو قانون سنه الكونغرس عام 1977 والذي يحظر فيه دفع او اخذ الرشى من الشركات الدولية والمسؤولين الاجانب العاملين في الولايات المتحدة. وبموجب هذا القانون يتوجب على هذه الشركات المحافظة على مستوى عالي من الاداء المحاسبي من خلال وجود سجلات مالية وتجارية دقيقة.